غزة- انفراج قريب مشروط بتسويات إقليمية وتحديات داخلية

تلوح في الأفق بوادر انفراجة قريبة لغزة، إذ يبدو أن الحرب الشرسة التي استمرت لأكثر من عشرين شهرًا، والتي تضمنت حصارًا وتطهيرًا وإبادة وتجويعًا، قد وصلت إلى مراحلها النهائية. تستعد غزة لتوثيق خسائرها الفادحة، وإحصاء شهدائها وجرحاها والمفقودين من أبنائها وبناتها، وتشير المعطيات الأولية إلى أرقام مفزعة تتجاوز بكثير ما هو معروف حتى الآن.
وبالنظر إلى التجارب السابقة مع نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، الذين لم يلتزموا بعهود أو اتفاقيات، لا يمكن الاستسلام للتفاؤل المفرط، ولا يمكن التأكد من حدوث انفراجة حقيقية قبل أن نرى ذلك يتحقق على أرض الواقع في القطاع المنكوب.
ومع ذلك، يظل التفاؤل بإمكانية وقف الكارثة نسبيًا ومشروطًا. فهناك عوامل موضوعية وذاتية تعزز هذا التفاؤل، في حين توجد عوامل أخرى تهدد بتحويله إلى سراب.
خمسة عوامل للتفاؤل
هناك خمسة عوامل رئيسية تدعم الاعتقاد بأن هذه الفرصة تبدو مختلفة عن المحاولات السابقة:
- أولًا؛ والأهم على الإطلاق، هي نتائج وتداعيات الحرب الأميركية – الإسرائيلية على إيران. فقد بات بإمكان نتنياهو وفريقه اليميني الادعاء بتحقيق "انتصار تاريخي"، حتى لو كان هذا الادعاء مبالغًا فيه إلى حد كبير.
يسعى نتنياهو إلى استعراض صورة نصر لم يتمكن من تحقيقها في غزة، وذلك من خلال التركيز على إيران ولبنان وسوريا، مما يشكل تعويضًا كبيرًا له عن الإخفاق والجمود على جبهة غزة والمقاومة.
وقد أظهرت استطلاعات الرأي العام الإسرائيلية أن نتنياهو وحزبه قد حققا بعض المكاسب، وأن الذهاب إلى صفقة لإعادة الرهائن في الوقت الحالي قد يكون وسيلة للحفاظ على هذا التفوق، قبل أن يبدأ بالتلاشي بسبب الخسائر المتزايدة في الحرب التي لا تبدو لها نهاية قريبة.
- ثانيًا؛ وهو لا يقل أهمية عن العامل الأول، أن نتنياهو كان يبحث عن "شبكة أمان" لمستقبله الشخصي والسياسي، ولكنه لم يجدها لدى حلفائه وخصومه في الداخل الإسرائيلي، إلى أن جاء دونالد ترامب وقدم له طوق النجاة الذي طال انتظاره.
إن تدخل ترامب في المسار القضائي الإسرائيلي، وتهديده بتبعات وخيمة في حال استمرت محاكمة نتنياهو، لم يكن بعيدًا عن رغبة نتنياهو وطلبه. واليوم، يجري البحث عن مخرج مناسب لتحقيق رغبة ترامب، الأمر الذي يظهر إسرائيل تحت قيادة نتنياهو كدولة ضعيفة وغير قادرة على محاكمة مسؤول متهم بالفساد والرشوة دون الحصول على موافقة أمريكية.
الأمر الذي يهمنا، ويهم غزة في هذا السياق، هو أن الخوف من مستقبل نتنياهو السياسي في اليوم التالي للحرب آخذ في التلاشي، وأنه إذا حالفه الحظ، فسيخوض الانتخابات القادمة، سواء كانت مبكرة أو في موعدها المحدد، من موقع قوة لم يصل إليه منذ صدمة السابع من أكتوبر.
أصبح نتنياهو اليوم أكثر قدرة على التحرر من قيود الحلفاء ومكائد الخصوم في الداخل، وهو يعلم أن "الصفقة" هي "المخرج" و"الفرصة" الوحيدة المتاحة له. وخلاف ذلك، فإنه سيخاطر بعلاقاته الوثيقة مع الرئيس الأمريكي وسيهدر الرصيد الذي حققه بعد الضربات على إيران، وسيضع نفسه من جديد تحت طائلة القضاء.
- ثالثًا؛ أن "مايسترو" الحرب والتهدئة في واشنطن ينظر الآن إلى غزة من منظور أوسع وأشمل، يمتد إلى المنطقة بأسرها ومنظومتها الأمنية وفرصها الاقتصادية والاستراتيجية، وليس فقط من زاوية ضيقة تتعلق بالرهائن ووقف إطلاق النار. فالرجل الذي خاطر بإشعال حرب مع إيران، في تناقض مع صورته كمناصر للسلام الساعي إلى جائزة نوبل، يريد الآن أن يجني ثمار هذه المقامرة، وأن ينجز سلسلة من الصفقات الكبرى دفعة واحدة، وأن تحصل إسرائيل على نصيب منها في صورة تطبيع متسارع مع الدول العربية ومكاسب اقتصادية كبيرة.
هذه حسابات ضخمة لا يمكن استيعابها بعقلية ضيقة الأفق مثل بن غفير أو قصر نظر مثل سموتريتش. فنتنياهو، الذي وصفه ترامب بأنه بطل الحرب والسلام، هو شريك محتمل في إبرام هذه الصفقات والتسويات وجني ثمارها. ولعل هذا هو الموضوع الرئيسي الذي تناولته قمتهما الأخيرة، والذي سيستكمله الرجلان في قمتهما القادمة.
ولا ينبغي السماح لأي شيء بعرقلة هذا المسار أو إضاعة هذه الفرصة، سواء كان ذلك من خلال القضاء الإسرائيلي ومحاكماته الماراثونية التي لا تنتهي، أو من خلال مناكفات الوزراء الذين يرون الأمور من زاوية ضيقة تتعلق بمستوطنة هنا أو بؤرة استيطانية هناك.
- رابعًا؛ أن جيش الاحتلال ما فتئ يكرر أن الحرب قد استنفدت أغراضها، وأن ما بين ثلثي إلى ثلاثة أرباع القطاع أصبح تحت سيطرته، وأن المضي قدمًا في بسط السيطرة على كامل القطاع ينطوي على مخاطرة بمصير الرهائن، ويتطلب شهورًا إضافية وتكلفة بشرية ومادية كبيرة. كما أن خسائره من الجنود والضباط في الشهر الأخير من هذه الحرب (يونيو/ حزيران) فقط تفوق أعداد الأسرى الأحياء لدى المقاومة، وأن قواته تعاني من الإرهاق الشديد بسبب طول أمد الحرب وتعقيد الظروف.
قد يقول قائل إن الجيش سبق له أن اشتكى منذ عدة أشهر، ولكن المستوى السياسي لم يستمع إليه بسبب أجندات أخرى. وهذا صحيح في السابق، ولكنه قد لا يظل صحيحًا في الظروف التي أعقبت الحرب الإسرائيلية على إيران وتداعياتها.
- خامسًا؛ لم يعد الاحتجاج في الشارع مقتصرًا على أسر وعائلات الأسرى والرهائن فحسب، بل انضمت إليهم أيضًا عائلات الجنود الأحياء الذين يقاتلون في قطاع غزة، وذلك بعد أن تزايدت الخسائر في صفوف أبنائهم، وتكاثرت أعداد النعوش العائدة من أرض المعركة، وتعرض الآلاف منهم لإصابات جسدية ونفسية خطيرة. فالجيش وعائلات منتسبيه يدفعون ثمنًا باهظًا مقابل أهداف يعتقد الكثيرون في إسرائيل أنها لا تمت لأمنهم الشخصي والقومي بصلة.
عقبات وفخاخ على الطريق
لكن كل ذلك لا يعني أن الطريق إلى الصفقة في غزة وحولها قد أصبح معبدًا أو يسير في اتجاه واحد، فنتنياهو في جوهره لا يختلف عن رفاقه من "عظمة يهودية" و"الصهيونية الدينية"، وإن كان أكثر قدرة منهما على تلطيف مواقفه المتطرفة بعبارات دبلوماسية مناورة ومراوغة.
ولا تزال "الكتلة الصلبة" من اليمين المتطرف قادرة على تعطيل عمل الحكومة والكنيست إذا أضافت ثقلها إلى ثقل "كتلة حريدية" لديها أسبابها الخاصة "للتخريب" والتعطيل، في حين أن سيناريوهات الخروج الآمن من المسار القضائي لا تزال غير محسومة تمامًا، ومفتوحة على احتمال "العفو مقابل الانسحاب من الحياة السياسية".
أما الانتخابات المبكرة، فلا تزال مجرد تكهنات فيما يتعلق بإجرائها أو عدم إجرائها، والأهم فيما يتعلق بالظروف التي ستحيط بتنظيمها والنتائج التي ستفضي إليها.
والأهم من كل ذلك، أنه لا أحد يعرف ما الذي يدور في ذهن ترامب، وما هي مكونات "الحزمة الأشمل" التي سيعرضها على غزة والمنطقة من حولها. ولا يوجد يقين لدى أحد بأن ما يفكر به ترامب اليوم سيظل عليه غدًا إذا ما استجد أي أمر.
لا أحد يعرف كيف يفكر الرجل بشأن غزة ومقاومتها، والضفة وتوزيعاتها، والسلطة ومآلاتها، وأي نظام إقليمي جديد يدور في خاطره، وكل عنوان من هذه العناوين كفيل وحده بقلب المشهد رأسًا على عقب.
وفي ضوء المعطيات القائمة، فلسطينيًا وإقليميًا، والأهم إسرائيليًا من وجهة النظر الأمريكية، فإن الصفقة، لكي تمر، يجب أن تتوزع على مراحل متعاقبة، متصلة ومنفصلة، ضمن رؤية و"إطار" قد يقتصران على العموميات والمبادئ العامة.
وهنا، يمكن التفكير باتفاق على مراحل، يبدأ بخطة ويتكوف معدلة، هدنة الستين يومًا المصحوبة بالإفراج عن جميع الرهائن وإدخال المساعدات، يمكن أن يكون "مدخلًا" للرؤية الأمريكية الأشمل، تتعهد خلالها واشنطن بالسعي لإنجاز اتفاق أوسع وأشمل حول إنهاء الحرب وأسئلة اليوم التالي، بالتوازي مع مسعى إقليمي لضم دول جديدة للمسار الإبراهامي.
وقد تبتلع إسرائيل الخطة دون التزام رسمي وعلني بوقف الحرب، ولكن سيكون معروفًا للجميع أنها لن تعود إليها، لأن ذلك يتعارض مع الطموح الأكبر والأوسع لرجل الصفقات في البيت الأبيض.
لقد نجح ترامب في السيطرة على نتنياهو بشكل كامل، ولا أذكر شخصيًا عهدًا أو مرحلة بلغت فيها هيمنة واشنطن على عملية صنع القرار الإسرائيلية هذا المستوى من النفوذ المطلق. وهو يريد أن يكون نتنياهو عونًا له في تنفيذ مآربه الكبرى، مقابل حمايته من الملاحقة القضائية والدعم المطلق لإسرائيل في حروبها وفي "سلامها" المفروض بالقوة مع الأطراف العربية (وإيران) بالطبع.
وسيكون من المثير للاهتمام تتبع كيف سيعمل ترامب على استرضاء نتنياهو وتسهيل مهمته مع حلفائه الأكثر تعطشًا للاعتداءات والاستيطان، وكم ستدفع القضية الفلسطينية من ثمن ذلك من خلال التنازل عن القدس والضفة الغربية، وإلى أي مدى ستقبل السلطة بالتساوق مع مثل هذه التصورات والرؤى، وكيف ستتكيف معها، وكيف ستتصرف بعد أن تزول نشوة انتهاء حكم حماس لغزة، لتحل محلها فكرة ضم مناطق واسعة من الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية؟
وسيكون من المثير للاهتمام معرفة ما المقصود بإعادة إصلاح وتأهيل السلطة، وما إذا كان دورها سيقتصر على "تدريس الكارثة والبطولة" في المناهج الفلسطينية، وتقويض "الرواية النضالية" للشعب الفلسطيني وتحطيم "رموزه"، وتكريس الوقت والجهد والموارد لحماية أمن المستوطنات وطرقها الالتفافية.
لكن العنصر الأكثر إثارة سيكون في تتبع مواقف الدول العربية الوازنة، وما إذا كانت ستلتزم بمبادرة السلام العربية، أم ستنزل إلى ما هو أدنى من ذلك بكثير في غياب "محور المقاومة" الذي تراجع دوره وتآكل في حروب العامين الماضيين؟
وفي الختام، قد تكون غزة على وشك تحقيق انفراج، ولكن فلسطين، قضية وشعبًا وحقوقًا، لا تزال على موعد مع الدخول إلى مرحلة استراتيجية جديدة، عنوانها الصراع بأشكال وأدوات ورؤى جديدة. أما "السلام القائم على العدل"، فلا يوجد ما يشير إلى أنه قريب المنال، أو أنه تجاوز مجرد المتاجرة بالأوهام.